الجمعة، 3 أبريل 2009

التنين الصيني يفرض نفوذه الاقتصادي علي العالم - المقال نشر بجريدة الفجر بتاريخ 21/ 11/ 2005

السؤال الذي كان يسيطر علي ذهني قبل أن أغادر القاهرة: هل يمكن للإنسان أن ينفصل شعوريا عن أحزان الوطن وصراعاته وتناقضاته حين ينتقل لقارة أخري ؟.

هل يمكن أن يهرب من أحلامه المؤجلة وواقعه المحبط إلي عالم أكثر رحابة.. أم أن الأحلام والأحزان تسكننا وتبحر بداخلنا، وربما تسبقنا إلي أقصي بلاد الدنيا، لتستقبلنا في جمهورية الصين الشعبية أسئلة حائرة.. وموجعة حول هموم وطن تخذلنا عملته المنهارة في كل دولة.. ويدخلنا في مقارنة ظالمة مع دول تسابق الزمن في خطواتها للأمام فيما نتراجع نحن إلي الخلف.

الطريق إلي بكين

في مكالمة عابرة مع صديقتي المحامية المعروفة «أميرة بهي الدين» أخبرتها بأنني أفاضل بين تأشيرة تحملني إلي دولة البحرين لإلقاء كلمة عن مستقبل المنطقة العربية، وبين تذكرة تنقلني إلي الصين بلد الحضارة والأساطير . وحسم صوتها الاختيار: سنذهب إلي البلد الذي توطدت فيه صداقتنا.. وشهد نضالنا لنصرة المرأة.. وسجل حكايات أمسياتنا المثيرة بعد أيام العمل الشاق والتنقل بين ورش العمل. سنعود إذن ـ مرة أخري ـ إلي بلد الإبداع اليدوي ونمارس دورنا الأنثوي المنسي (يعني نلعب ستات) نفاصل بائع السجاد الحرير.. وبائعة المفارش اليدوية علي «الآلة الحاسبة» كما يفضلون.. ونضحك من قلوبنا حين يقولون بفخر إنها صناعة (خاند ميد). ذكرتها بأنني في مهمة عمل وسأكون مشغولة بحضور المؤتمر الصحفي الذي تقيمه (مصر للطيران) لتدشين الخط المباشر القاهرة ـ بكين. وأن الرحلة شاقة ثلاث عشرة ساعة طيراناً وليلتان فقط لا وقت للراحة ولا للتسوق . لكن فكرة السفر إلي بكين علي «خط مباشر» كانت فكرة مغرية في حد ذاتها، وسيطر علينا حب المغامرة.. فولد القرار.

قبل إجازة عيد الفطر مباشرة عرفت جوازات السفر طريقها إلي سفارة الصين .. وفي أول يوم عمل بعد الإجازة التقينا جميعا في مطار القاهرة. وبعد أن ربطنا أحزمة مقاعد الطائرة التقت عيناي بعيني رفيقة المعاناة والسعادة.. رفيقة السفر «أميرة» قلت لها: ألسنا مجانين.. فبادرتني بالرد: «طبعا».. وأخذنا نضحك.

فلاش باك

لأول مرة في حياتي أحمل «خريطة» خلال تنقلاتي، كان ذلك أثناء مشاركتي في مؤتمر المرأة الذي عقدته منظمة الأمم المتحدة عام 1995 في بكين. وكانت فعاليات منتدي المنظمات غير الحكومية تتم في (هواريو) علي بعد ساعة تقريبا من بكين.

«التوهان» كان سيد الموقف، فالوفد المصري توزعت إقامته بين هواريو وبكين.. والنظام الشيوعي الصارم فرض علينا التحرك أفواجا في أتوبيسات.. وحاصرنا بمواطنين لا يعرفون من لغات العالم غير اللغة الصينية. فكان علينا أن ننتظر عدة أيام لنعرف موقعنا علي الخريطة.. ونحدد بنفس القلم علامات بارزة علي مواقع سكن الصديقات. وحين نتقابل نتحدث عن شيء واحد: (الطعام) فـ «الجوع» كان القاسم المشترك بيننا في بلاد لا تقدم إلا أكلاتها المخلوطة بدهن الخنزير وكل ما يسبح في البحار عدا الغواصات، أو يطير في الجو عدا الطائرات، أو يمشي علي الأرض عدا السيارات.. وكنت مهيأة تماما للجوع أو التوهان، لكن في فندق (كاري) كانت أول معالم تغير بكين التي امتلأت بالفنادق السبع نجوم وأصبحت تقدم كل أنواع الطعام العالمي.

في أول ليلة قضيتها في بكين عام 2005 فوجئت أن هناك قناة تليفزيونية تذيع أفلام (بورنو). فتذكرت حين خرجت مظاهرة علي هامش مؤتمر المرأة عام 1995 لتحطم رمز الغزو الرأسمالي للصين الشعبية: «ماكدونالدز» وتحطم واجهته بالحجارة.. وتساءلت: تري لو عقد مؤتمر للمرأة في بكين اليوم.. هل كانت النساء ستتظاهر رفضا لتجارة الجسد و تشيئ المرأة لتصبح مجرد «سلعة»؟. لكني سخرت من نفسي وتذكرت أن تجارة الجسد هي جزء أساسي من اقتصاد الصين !

عندما تسكن في طائرة

الصحفي لا يسلم قلمه عند الحدود.. ولا يخبئ روحه الناقدة في حقيبة السفر. بل تسجل عيونه كل ما يدور حوله بدقة. وفي رحلات الطيران الطويلة لا يستسلم لغفوة قد تضيع مشهدا مهما من دفتره.

أول ما تبادر لذهني علي الطائرة هو رحلتي الأولي لبكين، في عام 1995 التي استغرقت يومين بين إقلاع وهبوط وترانزيت. من القاهرة إلي فرانكفورت ومنها إلي هونج كونج لتنتقل حقائبنا من طائرة «لوفتهانزا» إلي طائرة «الخطوط الصينية». لنصل إلي بكين حيث تنتظرنا مفاجأة مؤلمة تلخصت في ضياع حقائب بعضنا، وكانت في مقدمتهم صديقتي المحامية المعروفة «لمياء صبري مبدي» التي ظلت تترد يوميا علي المطار بعد أداء مهام المؤتمر.. وتنتظر حقائبها التي وصلت بعد أسبوع تقريبا من إقامتنا في بكين !. ولعل هذا ما شكل بداخلي عقدة ما تتحكم في تصرفاتي أثناء السفر.

فأبدأ رحلتي بمطالعة وجوه طاقم الضيافة.. أتفاءل إذا بدت الوجوه ودودة بشوشة.. وأتشاءم إذا كانت جافة وتقدم الخدمة بتذمر وكأنك في ملجأ للأيتام . المفاجأة أن طاقم ضيافة «مصر للطيران» قد تخلي عن النساء البدينات واستقبلتنا ملامح مصرية رقيقة.. انتظرت أن أري المشهد الذي طالما استفزني علي خطوطنا الوطنية، ذلك الذي كانت تتضرر فيه المضيفة من طلبات الراكب فتسكب القهوة الساخنة علي جاره في المقعد.. لكن الصورة تغيرت تماما !.

بقليل من الخبث بررت اداء طاقم الضيافة بوجود قيادات مصر للطيران علي الطائرة: الطيار أسعد درويش رئيس شركة مصر للطيران للشحن الجوي، محمد منير رئيس القطاع التجاري بالشركة، يسرية رجب المستشار الإعلامي لوزير الطيران، علاوة علي نائب رئيس هيئة تنشيط السياحة سيد محرز. لكن في رحلة العودة تأكد لي أن مستوي الخدمة قد تغير بالفعل حتي دون وجود قيادات الشركة..وبدأت فعاليات الترويج للخط المباشر القاهرة ـ بكين، وتم إجراء قرعة علي التذاكر لاختيار «المقعد الذهبي».. ولعب الحظ دوره في فوز راكبة تايلاندية جاءت من السعودية بعد أداء العمرة لتنتقل إلي بانجكوك علي مصر للطيران.. وبفوزها استردت قيمة التذكرة.. حظوظ!

تركت مقعدي لأختبر الجدوي الاقتصادية لإعادة تشغيل خط القاهرة - بكين، وأقطع وصلة النوم الهادئ علي المسئولين المرافقين للوفد بأسئلتي . وبدأت أناقش محمد منير حول التعاقدات التي تمت مع ركاب الترانزيت خصوصا من (بانجكوك) بعد أن لاحظت وجودهم بكثرة علي الطائرة وكان سفير تايلاند يجلس إلي جواره. للحقيقة فوجئت بوجود خطة مدروسة للترويج لهذا الخط يتولاها المكتب الرئيسي بالقاهرة الذي يسعي لخلق شبكة ربط مع شركات الطيران العاملة في المنطقة للوصول إلي نقاط متعددة في الشرق الأقصي. وأن قيادات مصر للطيران تدرك أهمية استثمار انعقاد دورة الألعاب الأوليمبية بالصين عام 2008 في الترويج لهذا الخط. لكن الأهم من ذلك كله هو تقرير منظمة التجارة العالمية الذي يفيد بأن الصين قد أصبحت ثاني أقوي اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية واتسعت دائرة نفوذها الاقتصادي خارج شبه القارة الصينية. وكل هذه المعطيات تفرض وجود خطوط منتظمة تواكب تنامي حركة السفر ونقل البضائع. أضف إلي ذلك تنبؤات منظمة السياحة العالمية التي تشير إلي أن الصين ستصبح المقصد السياحي الأول في العالم بحلول عام 2017 وأنها سوف تستقبل 137 مليون سائح في عام 2020.

ولأننا في بلد لا يعرف الخطط المستقبلية التي تصل بالأحلام إلي محطة التحقق بعد أكثر من عشر سنوات، كان لا بد أن أشاغب سيد محرز بأسئلتي.. سألته عن حركة السياحة الوافدة من الصين وسبل تفعيلها خاصة مع ارتفاع مستوي الدخل في بلد يصل تعداده إلي مليار ومائتي وخمسين نسمة؟. وبشكل عملي حدثني عن القافلة السياحية التي ترأسها وزير السياحة أحمد المغربي في شهر يونيه الماضي والتي ضمت كبري شركات السياحة المصرية لدفع حركة السياحة الصينية الي مصر والتي يعول عليها في تعويض العجز التجاري بين البلدين. لكن الأرقام التي ذكرها نائب رئيس هيئة تنشيط السياحة بدت هزيلة جدا مقارنة بحجم السوق الصينية التي لم تصدر إلي مصر سوي 38 ألف سائح خلال عام 2004!

وربما ما يدعو للتفاؤل نحو مضاعفة هذا العدد هو وجود الدكتور ناصر عبد العال مستشارنا السياحي في بكين، وبحكم كونه أستاذا للغة الصينية آدابها قد ذاب في المجتمع الصيني وجعل من فكرة جلب السياحة الصينية إلي مصر هماً خاصاً يؤرقه ويعمل من أجله برؤية علمية تدرك طبيعة السوق الذي يخاطبه. فإذا أضفنا لذلك وجود مكتب مصر للطيران في قلب بكين وعلي رأسه أيمن السمري ربما تأتي أرقام السياحة الوافدة من الصين بعد ذلك بمئات الألوف.

وبقدر ما استوقفني اختيار ممثلينا بالخارج توقفت طويلا أمام السيدة «مني» حرم أيمن السمري التي تمكنت برقتها وشخصيتها العذبة من إضفاء حضور دافئ علي الحضور بدءا من استقبالنا علي عتبة المطار ووصولا إلي وجودها المميز في المؤتمر الصحفي وحفل الاستقبال.

الأصل في الأشياء هو «التقليد»

عندما وصلت إلي بكين كانت عيناي تفتشان عن تلك البيوت الصغيرة ذات الأسقف الحمراء.. عن مواكب الدراجات التي تحمل البشر إلي المزارع والمصانع ليختفوا فيها طيلة النهار فلا نراهم سوي في رحلة العودة.. كنت أتجول ببصري علني ألتقط محلا للصناعات التقليدية يبيع التحف المصنوعة من الأحجار الكريمة أو متجرا للحرير الطبيعي. لكن بكين التي أعرفها اختفت تماما، وكأن شخصا ما قد محاها من علي الخريطة ووضع مكانها تلك الأبراج الهائلة وواجهات الرخام التي لا تدل علي هويتها الصينية إلا من اللغة المنقوشة علي مداخلها. تعجبت أيضا من عملية الإنشاء المستمرة استعدادا لانعقاد دورة الألعاب الأوليمبية بالصين.. صدمتني الكباري التي غيرت معالم المدينة، وكأنني كنت أبحث عن ذكريات نقشتها قبل عشر سنوات في تلك المدينة النائية - البسيطة واكتشفت أن الغزو الصناعي سرقها من علي الجدران !

تغيرت بكين.. لا بل قفزت قفزة هائلة نحو المستقبل، تحولت من بلد يمارس سياسة الإغراق الاقتصادي علي العالم بسلع رخيصة الي بلد يدخل حلبة المنافسة علي (الجودة والسعر) . ويفتح المجال أمام القطاع الخاص بضوابط لا تقلل من سطوة الحزب الشيوعي الحاكم . لتبدأ خطوط إنتاجه في تقديم كافة الماركات العالمية ( تحت إشراف مراقب جودة) مستغلة الثروة البشرية الهائلة في مواجهة القوي الاقتصادية العظمي «أمريكا» !

إنه بلد يعاني من مشاكل «الوفرة».. يخشي من تزايد معدلات التضخم. وعلي العكس من (فقرنا الدكر) يطبق سياسات صارمة لتخفيض نسبة النمو الإقتصادي من 9.5% إلي 7 %!. فتلك القفزة الاقتصادية رافقتها مشاكل يمكن تسميتها بأمراض النمو السريع علي رأسها ظاهرة السخونة الزائدةOVERHEATING يليها نقص موارد الطاقة والمواد الخام (الصين ثاني مستورد للبترول بعد أمريكا )، ثم المشكلة المشتركة بين كل الدول التي تتحول من النظام الاشتراكي إلي النظام الرأسمالي وأعني بها مشكلة التوقف عن سداد قروض البنوك. لكن الدولة التي حكمها الحزب الشيوعي بالحديد والنار وفرض علي شعبها زياً موحداً لخمسين عاما يتصدي لتلك المشكلات بتشريعات قانونية (إجراءات انكماشية) يتم تطبيقها أيضا بالحديد والنار.

ورغم ذلك فهناك بوادر ضمور للتوجه الشيوعي في إدارة الاقتصاد الصيني، فلأول مرة يوافق مجلس نواب الشعب الصيني عام 2004 علي تعديل الدستور ليتضمن نصوصا تتعلق بحماية الملكية الخاصة.

ومثل كل حالات التحول تتعرض الصين لحالة «فساد» لكن الحزب الشيوعي يتعامل مع الفساد باعتباره قضية مركزية تهدد مستقبله!

خرج المارد الصيني من قمقم الخرافة لتصل الصادرات الصينية إلي 595 مليار دولار. وتحتل الصين المركز الأول في جذب الاستثمارات الأجنبية (61 مليار دولار).

ومن الموقع الاقتصادي الفريد تمكنت الصين من لعب دور سياسي هام فوصلت إلي أفضل حالاتها مع أمريكا (بعد أن أصبح الفائض التجاري في صالح الصين) وأصبح الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول للصين. ورغم الخلاف التاريخي مع اليابان أقامت معها بكين تجمعا للحوار الاقتصادي.

أصبحت الصين طرفا فاعلا في إدارة الأزمة النووية الكورية، فهي دولة قادرة علي حق «الرفض». ترفض تحويل الملف النووي الإيراني إلي مجلس الأمن، وترفض توقيع عقوبات علي السودان.

إنها الدولة صاحبة الحضارة العريقة منذ بناء «سور الصين العظيم» إحدي عجائب الدنيا السبع.. وهي صاحبة القوي النووية.. والقوة الاقتصادية الضاربة.. وبالتالي أصبحت قادرة علي فرض قرارها السياسي علي العالم.. التنين الصيني ليس مجرد خرافة.. إنه واقع يفرض إرادته علي العالم بما فيه «أمريكا» أحيانا !. لكن مصر لازالت تتعامل معها بطريقة: اعطني قرضا.. ولا تعلمني درسا!!.

ليست هناك تعليقات: